Monday, February 2, 2015

عملية شبعا: حسابات حزب الله ورسائل "الرد المضبوط"

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

وجهت إسرائيل، يوم الثامن عشر من يناير/كانون ثاني 2015، ضربةً جويةً جديدةً داخل الأراضي السورية، سرعان ما تبين أنها استهدفت قافلةً لقادة تابعين لإيران وحزب الله في مدينة القنيطرة. وأسفر الهجوم عن سقوط ستة من مسؤولي الحزب الميدانيين، وضابط إيراني رفيع كان يرافقهم. وبعد عشرة أيام، رَدَّ حزب الله بضرب دورية عسكرية إسرائيلية في مزارع شبعا على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة. وأدَّى الهجوم إلى مقتل اثنين من عناصر قوات الاحتلال أحدهما ضابط. وقد مثّل هذا التصعيد أوّل اختبار لحالة الهدوء التي سادت بين الطرفين، في عقب حرب تموز 2006، وقرار مجلس الأمن رقم 1701 الذي وضع حدًّا لها.

الرد اضطرارًا
خلال فترة الأيام العشرة الفاصلة بين اعتداء القنيطرة وعملية شبعا، سادت تقديرات مختلفة متعلقة بإمكانية رد حزب الله، مع رجحان احتمال عدم قيامه بذلك؛ بالنظر إلى أنه متورط في الصراع السوري تورطاً، يجعله غير قادر على فتح جبهة مع إسرائيل، في حال اختياره الرد واختيارها التصعيد. كما أنّ سلوك حزب الله تجاه عمليات إسرائيلية سابقة، استهدفت بعض أهمّ قادته، لم يُرجِّح فرضية الرد؛ ذلك أنه لم يفعل شيئًا إزاء اغتيال إسرائيل عماد مغنية الذي يُعَدُّ أهمّ قادة الحزب العسكريين على الإطلاق، في عملية استهدفت سيارته في دمشق في
فبراير/شباط عام 2008، ولم يحرِّك ساكنًا، بعد اتهامه إسرائيل بالمسؤولية عن اغتيال حسان اللقيس في بيروت، وهو قائد عسكري آخر بارزٌ في الحزب، في ديسمبر/كانون أول 2013، فضلًا عن توجيه إسرائيل ضربات أخرى إلى الحزب، بالإغارة على قوافل له داخل الأراضي السورية، أو على الحدود السورية مع لبنان، وكان آخر تلك الضربات ما جرى قبل نحو شهر من عملية القنيطرة، عندما أغارت طائرات إسرائيلية على مخازن صواريخ، قيل إنها لحزب الله داخل الأراضي السورية، قرب الحدود مع لبنان.
لكن، من الواضح أنّ الأمر بدا مختلفًا هذه المرة. فقد أحرجت غارة القنيطرة قادة الحزب تجاه قاعدتها الشعبية، خصوصًا أنّها استهدفت ستةً من قادته الميدانيين، في صدارتهم جهاد عماد مغنية، نجل القائد العسكري السابق للحزب الذي اغتالته إسرائيل في دمشق قبل سبعة أعوام. كما أنّ الضربة جاءت بعد ثلاثة أيام فقط من مقابلة تلفزيونية لحسن نصر الله، هدَّد فيها بالرد على أيِّ عدوان إسرائيلي، على الرّغم من أنّ حزبه مشغول في ساحات أخرى؛ إذ قال: "نحن، من البداية، قمنا بحساب الجبهة مع إسرائيل، هذا لا يمس لا في إمكانات ولا في عديد ولا في كادر الحزب القيادي، ولا في جهوزيته. وبالتالي، أيًّا تكُن انشغالاتنا في المساحات والميادين الأخرى، لا، ولن تكون على حساب جهوزية المقاومة التي تبقى عيونها وعقلها واهتمامها ومتابعتها قائمةً وحثيثةً في مواجهة العدو الإسرائيلي، ونحن نُبقي هذ الاحتمال دائمًا قائمًا".
من جهة أخرى، لم تستطع إيران، وهي التي فقدت أحد أهمّ جنرالاتها الموكلة عليهم الحرب السورية في الضربة الإسرائيلية، أن تلتزم الصمت. لذلك، وجد الحزب نفسه معنيًّا بردٍّ محدود ومضبوط، يستطيع فيه أن يؤكِّد أنه لم يقفْ مكتوف الأيدي إزاء الاستهداف الإسرائيلي، مع عدم التصعيد إلى درجةٍ تخرج فيها الأمور عن نطاق السيطرة، وتذهب في اتجاه مواجهة لا يستطيع الحزب دخولها في هذه المرحلة.

حسابات المواجهة
جاء ردُّ حزب الله بناءً على جملة من الحسابات المرتبطة بالمكان والزمان:
• فمن الناحية المكانية، اختار للردِّ أراضٍ لبنانيةً محتلَّةً (مزارع شبعا)، لا يؤدِّي التحرّك فيها إلى مسّ الخطوط العريضة للصراع مع إسرائيل، أو مساحات المناورة في الداخل، ولا سيما أنّ الحكومة اللبنانية تَعُدُّ مزارع شبعا أراض محتلةً، وتعترف بشرعية المقاومة المسلحة لاسترجاعها. فباختيار حزب الله هذه المنطقة للردِّ، من دون سواها، يكون قد عمل ضمن خطوط مُتَّفق عليها، إلى حدٍّ ما، حتى بالنسبة إلى بعض خصومه الذين طالما اتهموه بـ "جرّ" البلاد إلى مواجهات خارجية، خدمةً لأجندات إقليمية، لا مصلحة لِلُبنان فيها. وقد أخذ الردُّ في الحسبان وضعَ القاعدة الشعبية لحزب الله التي كانت ستجد نفسها في حرج شديد، لو ذهبت الأمور في اتجاه تصعيد كبير، سواء كان ذلك من جهة الدمار أو النزوح الناجم عن أيِّ مواجهة كبرى. فإذا كان الشعب السوري قد احتضن نازحي الحزب عام 2006، وإذا كانت دول عربية (في صدارتها قطر) قد ساهمت في إعادة إعمار ما دمرته إسرائيل في حروب سابقة، فإنّ الأوضاع الراهنة لا يتوفر فيها هذان الأمران.
• من الناحية الزمانية، جاء رَدُّ حزب الله في وقتٍ يركز فيه العالم، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، على ملفَّين أساسيين في المنطقة، يُرجّحان عدم التصعيد الإسرائيلي ضدّ حزب الله. الأول هو الحرب ضدَّ تنظيم الدولة الإسلامية التي يُشكِّل حزب الله وسائر المحور الإيراني جزءًا أساسيًّا منها؛ ذلك أنّ التنسيق بين إيران وحلفائها من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى، في الحرب ضدَّ تنظيم الدولة وغيره من التيارات "الجهادية السنِّية"، يكاد يتجاوز حدود التحالف الموضوعي على امتداد الإقليم. الملف الثاني الذي تهتم به إدارة أوباما هو المفاوضات النووية مع إيران التي بلغت من الحساسية غايتها، إلى حدِّ أنّ الرئيس
أوباما هدَّد باستخدام الفيتو ضدّ أيِّ قرار يصدر عن الكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون، في حال اشتماله على فرْض عقوبات جديدة على طهران. ومن ثمة، ما كان لتصعيد إسرائيلي ضدّ حزب الله أن يحظى بغطاء أميركي قد يقوِّض الجهد الدبلوماسي المبذول للتوصُّل إلى اتفاق مع إيران. فهذه الدولة، وهي التي تخوض معركةً مصيريةً بشأن مشروعها الإقليمي، على امتداد الهلال الخصيب، لا يمكنها أن تصمت في حال استهداف إسرائيل حزب الله الذي يُشكِّل أحد أهمّ استثماراتها في المشرق العربي.
من ناحية إسرائيل، فباعتبارها البادئة، كان عليها أن تمتص ردًّا ما، لا سيما أنها أوضحت خطوطها الحُمر للحزب وإيران عبر الضربة في الجولان؛ وملخّصها أنها لا تقبل ببناء قوَّة عسكرية لهما في الجولان. علاوةً على ذلك، لم تكن إسرائيل في وضعٍ يسمح بالتصعيد، لأسباب كثيرة؛ بعضها مرتبط بحقيقة مصالحها في المنطقة، والأخرى مرتبطة بوضعها الداخلي. فالدخول في مواجهة شاملة مع حزب الله، من شأنه أنْ يُخِلَّ بموازين قوًى قائمة في الصراع السوري، تضمن في وضعها الحالي بقاء النظام السوري منهكًا، وهو يحارب من أجل وجوده. يُضاف إلى ذلك أنّ تجنب إسرائيل مواجهةً شاملةً يضمن لها، من جهة أخرى، عدم انتصار المعارضة ووقوع سورية في قبضة جماعات جهادية، لا تستطيع احتمال وجودها على حدودها.
وداخليًا، لا يتوافر في إسرائيل إجماع على الدخول في مواجهة كبيرة في المرحلة الراهنة، لأسباب كثيرة؛ أبرزها خوف رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، من أيِّ مضاعفاتٍ، قد تُؤثِّر في حظوظه من الانتخابات العامة التي حُدِّد موعدها في 17 مارس/آذار 2015. كما يبدو أنّ الجيش غير متحمس للدخول في حرب ثانية، خلال أقل من ستة أشهر، بعد أن اضطُر إلى تدخُّل بريٍّ في العدوان الأخير على غزة، تعرَّض في أثنائه لمقاومة دامت أكثر من 50 يومًا، ولخسائر كبيرة أيضًا (مقتل 70 ضابطًا وجنديًّا). وإنّ اتساع مدى التردد بالنسبة إلى إسرائيل هو مقدار الخسائر التي يمكن أن يُكابدها اقتصادها، في حال أيِّ مواجهة جديدة. فعلى الرغم من عدم صدور إحصاءات حكومية دقيقة، تشير التقديرات إلى خسائر كبيرة، يكابدها الاقتصاد الإسرائيلي في أثناء الحرب ضدَّ غزة؛ إذ إنّ تكلفة الحرب اليومية ضدَّها، بحسب صحف
إسرائيلية - نقلًا عن مسؤولين في وزارة الدفاع - بلغت 50 مليون دولار، إضافةً إلى خسائر ناجمة عن تعليق رحلات الطيران، وركود القطاع السياحي، والفندقي، والتجاري، والخدمي. لذا، فإنّ البعد الاقتصادي والخسائر الكبيرة المتوقعة من الأسباب التي تدفع إسرائيل إلى التريث والحذر بشأن التصعيد.
ومن الأسباب التي تدفعها إلى تجنب التصعيد، أيضًا، أنّ نشوب مواجهة على "الجبهة الشمالية" يقتضي إجلاء المستوطنين من المدن والمستوطنات على الحدود مع لبنان، إجلاءً تامًّا، إلى أماكن أخرى لا يصل إليها القصف، وهي أماكن يقلُّ عددها بالتدريج، مع امتلاك حزب الله صواريخ أبعد مدًى. لكنْ، يمكن أن تصبح هذه "التضحيات" محتملةً، إنْ رأت إسرائيل أنّ الحرب مسألة إستراتيجية، وأنّ الحزب يمثّل حاليًّا تهديدًا لها. لكن، ليس الأمر كذلك؛ لأنّ عملية الحزب جاءت ردًّا بعد سلسلة عمليات إسرائيلية ضده، في حين أنّ الحزب منذ عام 2006 لم يبادر إلى عمليات ضدّ إسرائيل، أي إنّ "الجبهة الشمالية" هادئة بالنسبة إليها، ولا تستدعي دفع ثمنٍ لأيِّ تصعيد.
خاتمة
للأسباب المذكورة، يبدو أنّ تقديرات أطراف الأزمة كلّها تصبُّ في خانة عدم التصعيد، ومن الجليّ أنّ هذا الأمر هو الذي كان يعنيه حسن نصر الله، في سياق قوله، وهو يؤبِّن قادة الحزب الميدانيين، إنّ حزبه "لا يريد الحرب، لكنه لا يخشاها"، وقد أشارت وكالة رويترز الإخبارية إلى رسالة من الحزب إلى إسرائيل، عبْر قوات "يونيفيل" تفيد عدم رغبته في التصعيد. ولقد قابلت هذه الرغبةَ رغبةٌ إسرائيلية، متمثِّلة بالاحتواء، وعدم التصعيد مرحليًّا. ويتّضح ذلك جليًّا في طلب قادة الجيش الإسرائيلي إلى سكان "المدن الشمالية" أن يعودوا إلى ممارسة حياتهم الطبيعية. لكنّ ذلك لا يعني، بالضرورة، أنّ الطرفين قبِلا بالعودة إلى تفاهمات 2006، خصوصاً أنّ حسن نصر الله تحدث عن سقوط قواعد الاشتباك التي كانت سائدة مع إسرائيل؛ وهو ما يعكس خوفًا متزايدًا من مواصلة إسرائيل استغلال تورط حزب الله في الصراع السوري، حتى تُوجِّه إليه مزيدًا من الضربات لإضعافه، خصوصًا أنه يتعرض لاستنزاف ماديٍّ، وبشريٍّ، ومعنويٍّ، نتيجةً تحويل اتجاه بندقيته إلى صدر شعب ثار على الظلم والاستبداد.

No comments: