Tuesday, December 13, 2016

الذكرى السادسة لانطلاق الانتفاضة العربية: عيدٌ، بأية حالةٍ عُدتَ يا عيدُ!



جلبير الأشقر


Link

يصادف يوم السبت القادم الذكرى السادسة لاستشهاد محمد البوعزيزي في مدينة سيدي بوزيد التونسية يوم 17 كانون الأول/ديسمبر 2010. وقد أشعل البوعزيزي نفسه بدون أن يدري أنه بذلك الصنف الأقصى من الاحتجاج أضرم النار ليس بمدينته ولا بجهته (ولايته) ولا بوطنه التونسي فحسب، بل بعموم المنطقة العربية، «من المحيط إلى الخليج» وفقاً للعبارة التي درجت في زمن الحركة القومية العربية الغابر. ومصيبتنا تحديداً أن هذا العيد لم يعُدْ بالتجديد الذي وعدنا به «الربيع العربي»، بل عاد «بما مضى» من مصائب وقد تفاقمت بصورة مخيفة. 
فلا بدّ من التأكيد على أمرين بالغي الأهمية إزاء الحالة المُحزنة التي عاد بها عيد الانتفاضة العربية:
الأمر الأول يتعلّق بالفكرة التي شاعت بصورة طبيعية في منطقتنا والقائلة إن العبرة من الأعوام الستة المنصرمة هي أن النظام القديم، على علّاته العظيمة، كان أفضل من الثورة عليه إذ أنها لم تفلح سوى في توليد كارثة أعظم. 
والحقيقة أننا لو طبّقنا مثل هذا المنطق على أي من الثورات العظمى في التاريخ منظوراً إليها بضع سنوات بعد اندلاعها لحكمنا على جميعها بالإدانة. فلو تأمّلنا في الثورة الفرنسية من منظور ما حلّ بها ستّ سنوات بعد اندلاعها في عام 1789 لوجدنا أن حالة فرنسا كانت مخيفة للغاية، تعصف بها حربٌ أهلية ذهب ضحيتها مئات الألوف من البشر بينما يقوم النظام الثوري بإعدام عشرات الآلاف في تآكل داخلي مروّع. هذا وقد شهدت فرنسا بعد ذلك عهداً امبراطورياً تلته عودة للنظام الملكي الذي أسقطته الثورة، ولم تستتب الأمور عند النظام الجمهوري سوى بعد ما يناهز القرن من تاريخ الانفجار الأول. ومع ذلك فإن عيد الثورة الفرنسية في 14 تموز/يوليو هو أعظم الأعياد التي تحتفل بها فرنسا المعاصرة في كل عام، ويتذكّر الفرنسيون ثورتهم كإنجاز تاريخي مجيد، يهبّ معظم مؤرخيهم للدفاع عنها في وجه أي مؤرخ يتعرّض لها بمحاولة تصويرها ككارثة. 
أما الثورة الإنكليزية فقد بدأت بعقد من حروب أهلية تسببت بين عامي 1642 و1651 بموت مئتي ألف إنكليزي من أصل عدد سكان إجمالي لم يكن يتعدّى الخمسة ملايين، ناهيكم بعدد الضحايا في اسكتلندا وأيرلندا. وأما الصين، فقد وصلت ستة أعوام بعد اندلاع ثورتها في سنة 1911 إلى حالة قصوى من التفتت، وقعت البلاد خلالها تحت سيطرة «أسياد الحرب».
فلا يجوز الحكم على ثورةٍ ما قبل استكمال مسارها التاريخي، والحال أن ما بدأ لدينا في عام 2011 إنما هو سيرورة ثورية طويلة الأمد كان يمكن منذ البدء إدراك أنها سوف تستغرق سنوات عديدة بل عقوداً، ولن تصل إلى شاطئ أمان إلّا لو انبثقت قيادات تقدّمية قادرة على إخراج البلدان العربية من الأزمة المستعصية التي وقعت فيها إثر عقود من التعفّن في ظلّ الاستبداد والفساد. 
وهذا ما يحيلنا إلى الأمر الثاني الذي لا بدّ من التأكيد عليه في صدد ذكرى انطلاق الانتفاضة. فإن القول بأن النظام العربي القديم خيرٌ من الثورة عليه كالقول إن تراكم القيح في الدمل خيرٌ من شقّه وتفريغه من القيح. فإن ما نشهده اليوم من مآسٍ ليس نتاجاً للانتفاضة، بل هو نتاج عقود من تراكم العفَن في صميم النظام القديم، وقد فجّر «الربيع العربي» هذا التراكم الذي كان انفجاره محتوماً عاجلاً أم آجلاً. والحقيقة أنه كلّما تأخر الانفجار، كلّما كان حجم العفَن أكبر. وإن كان ثمة ما نأسف عليه في الانفجار العربي فليس حدوثه الذي كان محتوماً، بل هو تأخره بحيث تمكّن النظام العربي القديم من المضي بعيداً جداً في تمزيقه لنسيج المجتمعات العربية بواسطة القبلية والطائفية وشتّى أنواع المحسوبية، ناهيكم بالبطش وإرهاب الدولة والإرهاب المقابل (الأقل شأناً) الذي ولّده الإرهاب الحكومي.
فكفى نحباً على النظام القديم وكأنه حلمٌ ولم يكن كابوساً. كفى ندماً على الماضي وكأنه زمنٌ كان ممكناً أن يستمر إلى الأبد. إن العبرة التي لا بدّ لكلّ من عانى ويعاني من النظام العربي القائم منذ عقود، وهي حال الغالبية العظمى من سكان المنطقة العربية، العبرة التي لا بدّ لكلّ منّا أن يستخلصها من تجربتنا التاريخية الحديثة إنما هي حاجتنا الماسة إلى بديل تحرّري تقدّمي عن الماضي العَفِن الذي أخذ ينهار منذ ستة أعوام ولن يتوقّف عن الانهيار مهما حاول القائمون عليه ترميمه. وتشهد على ذلك سنة 2016 التي لم تقتصر على مأساة حلب الهائلة، بل بدأت بانتفاضة جهوية (إقليمية) في تونس وانتهت بحركات اجتماعية عارمة في المغرب والسودان.
إن الخطر الذي يهدّدنا ليس مواصلة ثورتنا، والحقيقة أن إجهاضها أخطر بكثير من مواصلتها، بل هو استمرار افتقادنا إلى قوى تقدّمية منظّمة ترتقي إلى مستوى التحدّي التاريخي العظيم الذي نواجهه. فإننا أشبه بشعبٍ بدأ يخرج من أرض العبودية لكنّه مهدّدٌ بالتيْه في الصحراء ويتعرّض فيها لهجوم حيوانات مفترسة بينما يبحث عن سبيله إلى أرض الميعاد. من أجل إرشادنا إلى هذا السبيل، نحن بحاجة إلى «موسى حديث» لا يمكن سوى أن يكون جماعياً تحرّرياً وديمقراطياً تعددياً على صورة المجتمع الجديد الذي نصبو إليه.
٭ كاتب وأكاديمي لبناني

No comments: