Monday, May 29, 2017

ألم بلا حدود

AN EXCELLENT COMMENT!


الياس خوري

Link
الصورة التي انطبعت في ذهني، وأنا أشاهد الرئيس الأمريكي في رقصة السيف، وحوله راقصو ممالك الكاز والغاز، شكلت مدخلا إلى قراءة زمن الانحطاط العربي الراهن، الذي يبدو أن لا قعر له. فالانحطاط، هو لحظة بؤس كوميدية ملونة بميلودراما مفبركة. وشعرت وأنا أتابع تداعيات القمة التي دفع فيها العرب «الجزية» للسيد الأمريكي، والصراعات التي أشعلتها في منطقة الخليج، أن الانحطاط يشكل فرصة للمراقب والمؤرخ والكاتب، لأنه لحظة نادرة تكشف عورات التاريخ، التي تغطيها خطابات معقدة، تحجبها أو تفرض لغة متعالية عليها.
في الانحطاط تصير القيم الأخلاقية والفكرية ممسحة لأقدام الطغاة، وبتصدر السفهاء المشهد بفظاظتهم وعظاميتهم الممزوجة بالدونية والضعة، وتصير اللغة بحاجة إلى عملية تنظيف واعادة تأسيس، كي تستعيد المعاني معانيها.
فالانحطاط مدرسة للتأمل في أحوال البشر، وفي انقلاب الأزمنة، وفي محاولات تبرير الفوضى والتوحش بكلمات مثقوبة، ووجوه ملطخة بالجريمة.
قلت لصديقي انه زمن الكتابة التي تسخر من كل شيء، وادعيت ان علينا، نحن معشر الكتاب، ان نتواضع قليلا، وبدلا من إلقاء الدروس على الناس الذين يجتاحهم الملل، علينا أن نحول السخرية إلى نمط حياة.
بدلا من أن نشعر بالأسى والمرارة، نعتبر أن رقصة العرضة مجرد مسرح من الدرجة الثالثة، ونرى في لقاء السيدة ترامب مع السيدة نتنياهو تعبيرا عن الفظاظة وتصرفات محدثي النعمة، ونقرأ لعبة قانون الانتخابات اللبنانية ككاريكاتور ساخر لم يرسمه بيار صادق، ونرى في الزيارة القصيرة جدا لترامب إلى بيت لحم مشهدا يليق بريشة ناجي العلي المتهكمة وإلى آخره.
والحق أنه لولا الانحطاط وتيمورلنك لما تفتقت عبقرية ابن خلدون، ولولا الخمول الشامل لما ولدت ألف ليلة وليلة، فلماذا نندب حظنا، إذ ربما كان هذا الانحطاط الشامل الذي تتسيد فيه داعش من جهة وحكم عسكريتاريا العرب من جهة أخرى، هو فرصتنا المنتظرة من أجل تصفية حسابنا مع خدعة عصر النهضة التي أوصلتنا تشوهاتها إلى هزيمة الخامس من حزيران/يونيو.
كنت على وشك الإقتناع بهذا الكلام، الذي هو المدخل المنطقي للتأقلم والشعور بسعادة البلهاء، حين صفعتنا واقعتان مروعتان، غيبتا كوميديا الإنحطاط أمام هول الحقيقة التي نريد ان نتناساها.
الواقعة الأولى هي دخول إضراب الأسرى الفلسطينيين مرحلة حرجة جدا بدأت تنذر بالمأساة، ونهايته المتواضعة نسبيا. فهذا الاضراب الذي كان قادرا على هز الجبال، لم يهز شيئا في مجتمعاتنا العربية المغمى عليها. لا أريد، ولا استطيع القول إن أثره في المجتمع الفلسطيني كان هشا وضعيفا، لكنها الحقيقة. اذ نجحت السلطتان في رام الله وغزة في تهميش الإضراب، كي لا أقول إنهما حاولتا ضربه. ان مشهد خيام الاعتصام شبه الفارغة، كان أقسى من عنجهية السجان الإسرائيلي وصلافته.
في هذا الاضراب الذي أعاد توحيد الحركة الأسيرة، بدأ الانشقاق الفلسطيني الجديد الذي لا بد وأن تكون آثاره كبيرة. لم يعد الانقسام بين سلطتي رام الله وغزة هو الموضوع، فهذا صراع تافه على سلطة تحت الاحتلال لا سلطة لها، بل تبلور انقسام جديد بين فلسطين الأسيرة وفلسطين الخاضعة للاحتلال. بين من يملك الحرية داخل السجن ولا يملك السلطة وبين من استبدل حريته بسلطة وهمية وخاضعة. وفي هذا الانقسام تتبلور ببطء شديد ملامح حركة وطنية فلسطينية جديدة ومتحررة من وصاية المانحين ومن تجاذبات انهيار المدى العربي ومحاولاته الارتماء في احضان إسرائيل والولايات المتحدة.
الواقعة الثانية هي مجزرة الأقباط في مصر. فاذا كان اضراب الأسرى بنتائجه غير الواضحة قد كشف ابتذال السلطات العربية وكونها صارت بلا معنى، فان مجزرة المنية الوحشية جاءت لتدق ناقوس خطر الإنهيار. فهذا الإصرار الهمجي على شن حرب تهويل دموية تتركز على الأقباط، وايقاظ الغرائز العنصرية والطائفية، في سيناء وصعيد مصر، هو محاولة لتفكيك مصر وتدمير المجتمع المصري.
فابادة الأقليات واضطهادها والغاء فكرة المساواة والمواطنة التي أسسها الاستبداد عندما حول كل الشعب إلى عبيد، انفجرت تفككا سياسيا واجتماعيا مروعا مع عجز النخب السياسية عن قيادة انتفاضات الحرية، ونجاح الاستبدادين العسكري والنفطي في تحويل حلم الحرية إلى كابوس عنصري طائفي.
الوحشان المستبدان يتصارعان بدماء الناس وفوق خرائب المدن والحواضر، كل شيء يتصحّر في هذا الربع العربي الخالي من المعنى.
ولم يكن ينقص أقباط مصر سوى احتماء المستبد بأمريكا. فالاستبدادان العسكري والنفطي أفرغا نضال العرب من اجل الاستقلال الوطني والحرية من المعنى، وأدخلاه في حروب طائفية بربرية.
في هاتين الواقعتين، اللتين تستكملان يوميات الموت العربي الطويل، يتخذ الانحطاط شكل ألم بلا حدود. انه كتاب حاضرنا الذي نصير فيه احرفا تكتب كلمات الموت والألم. لا نستطيع السخرية لأن الأنين يبتلعنا، ويرمينا في مستنقع دماءنا المهدورة.
ضحايا اليوم، من أسرى ولاجئين، من فلسطينيين وسوريين وعراقيين ومصريين هم صوت الحق، وهم ما تبقى لنا كي نحافظ على انسانيتنا المهدورة.

No comments: